Alturjman

الترجمان

رؤى حول العالم

أيمن شرف

في يناير 1999 غادرت القاهرة إلى دبي تاركا أمنيةً على وشك التحقق.. أن أتعلم لغة الكمبيوتر (الحاسوب) في كورس دراسي بنقابة الصحفيين، وأن أشارك في تجربة مجلة “الكتب.. وجهات نظر”..

كانت تجربة جريدة “الدستور” المشاغبة في إصدارها الأول قد أغلقت أبوابها قبل ذلك بنحو عام، و”آويتُ” إلى مكتب جريدة البيان الإماراتية بالقاهرة تشغلني فكرة إصدار مجلة للكتب الأجنبية تقدم الجديد من رؤى العالم عبر الكتب، علها تساهم في تجديد وإثراء ثقافتنا التي انغلقت –في معظمها- على ذاتها، وتراجعت فيها نسب الإبداع الفكري، وانحسر فيها مفهوم “التراث”، فصار يُقصد به “تراثنا الثقافي العربي والمصري” فقط، وليس تراث الإنسانية ككل، فحدث ما يشبه القطيعة عن تطور العلوم والمعارف الإنسانية.

تحدثت حول الفكرة مع السفير حسين أحمد أمين، الذي كانت قد نشأت بيننا صداقة –رغم فارق السن- بحكم كتابته في “الدستور”، فبادرني بأن الأستاذ سلامة أحمد سلامة – رحمة الله عليه- يستعد الآن لإصدار مطبوعة بهذا التوجه اسمها “الكتب.. وجهات نظر” واقترح أن ألتحق بفريق العمل معه، وذهبت بالفعل لمقابلته واتفقنا، وإذا بعرض لسفري إلى الإمارات للعمل في جريدة البيان بمقرها الرئيسي في دبي، فغادرت سعيا وراء الرزق، تاركا الأمنيتين.

في دبي.. سرعان ما حققت الأمنية الأولى، اشتريت جهاز كمبيوتر وعلمت نفسي بنفسي كيف أتعامل مع هذا الجهاز “العجيب”، لتنفتح أمامي فرصة متابعة صحف العالم لحظة بلحظة، تلك التي كنت أتابعها في نسخها الورقية متأخرا نحو أسبوع أو أكثر عندما كنت مسئولاً عن قسم الترجمة والشؤون الخارجية في “الدستور”.

وفرة الوقت أتاحت التعلم، وأتاحت الاطلاع على ما هو أوسع نطاقا من الصحف اليومية والأسبوعية السياسية والشاملة.. رحت أتابع بنهم الملحق الأدبي لجريدة “دي تسايت” الألمانية والذي يحوي عادة كماً هائلاً من الترجمات من لغات حول العالم، وكذلك مجلات “لندن ريفيو أوف بوكس”، و”نيويورك ريفيو أوف بوكس” و”ليتر” و”ساينس ماجازين” و”أمريكان ساينس”، وأقرأ عروضا للكتب الجديدة التي تصدر بمعدل هائل مقارنة ببلادنا.. ومعها أتابع عن كثب النسخة الورقية للمشروع المصري – العربي الوليد “الكتب.. وجهات نظر”.

أدركت أن الهدف من المطبوعة لم يكن تقديم العالم إلينا بقدر ما كان تقديم “وجهات نظر” محلية في شؤون داخلية “مصرية في الغالب وعربية أحيانا”،

وعلى الهامش تقديم بعض من الكتب الأجنبية، إضافة إلى أن الرؤية الحاكمة في اختيار ما يعرض لم تكن مُنظمة بالقدر الكافي، فكانت تعتمد على مبدأ أن هذا الكتاب أو ذاك مهم في حد ذاته، وليس في سياق احتياجنا الثقافي بشكل عام.

النهج نفسه سار عليه لاحقاً المركز القومي للترجمة في مصر، صحيح أنه قام بجهد هائل، فقدم أكثر من 4000 عنوان في غضون سنوات قليلة من البداية، لكن طريقة الاختيار تعتمد في المقام الأول على انتقاء “مترجم” فرد، رأى أن كتابا ما يستحق الترجمة إلى العربية، ووافقته لجنة مختصة على ذلك، دون أن تكون هناك استراتيجية مسبقة تقول مثلاً “إننا أحوج ما نكون الآن للكتب العلمية في تخصصات كذا وكذا”، أو “أن التخصص الفرعي “علم النفس الإدراكي” –مثلاً- يعاني من نقص شديد فنحتاج إطلاع باحثينا ومثقينا على الجديد فيه”، وبالتالي أصبح الناتج في أغلبه الأعم لا يندرج في سياق واضح.. عدد هائل من كتب العلوم الاجتماعية والأدب، ونقص حاد في الكتب العلمية وكتب الأطفال، وفي الوقت نفسه غاب تسويق ذلك الجهد للقارئ العام، ناهيك عن قارئ الكتاب المهتم، فلم يصدر المجلس مجلة تعرض للقارئ العام خلاصة تلك الكتب لتفتح شهيته للقراءة، وتثير رغبته في اقتنائها، واكتفى المركز – صاحب أكبر رقم من الكتب المترجمة في عالمنا العربي – مثله في ذلك مثل كثير من دور النشر لدينا بتقديم تلك النبذات المختصرة المعتادة للتعريف بالكتاب في موقعه الإلكتروني، بينما تحرص دور النشر في كل أنحاء العالم على طرح قراءات ونقاشات وعروض عدة للكتب إلى جانب المقدمات في هذا الفضاء الإلكتروني الواسع، ليتعرف القارئ بدرجة أكبر على محتوى الكتب.

توقفت مجلة “الكتب.. وجهات نظر”.. تلك المحاولة العربية الوحيدة خلال النصف الثاني من القرن الماضي لإصدار مجلة معنية بالكتب الأجنبية “نسبيا” لأسباب لا أعلمها، وهكذا ظلت فكرة مجلة متخصصة في عروض الكتب الأجنبية تقدم بدأب رؤى من حول العالم جديرة بمحاولة إصدارها، بل إن احتياجنا الشديد للانخراط والتفاعل مع عالم متجدد بأفكاره وكتبه يزداد كل يوم تخصصا فوق تخصص يتطلب ربما أن تصدر عدة مجلات للكتب وليس مجلة واحدة، من أجل توفير المعرفة الإنسانية لقارئنا العربي، وتعميق رؤيته للعالم ولوجوده، وتزيد من تفاعله مع روح العصر الذي غاب عنه لزمن بعيد، عسى أن ننهض من “وعكتنا” الحضارية القائمة، ما بين تراجع واضح في مستويات التعليم النظامي الحديث وفي جودة وصدقية الأبحاث العلمية، وبين نعرات مذهبية وطائفية وإثنية وتفسيرات متطرفة للعقائد تعادي الآخر -أي آخر- وانكماش حول انتماءات قبلية وعشائرية ضيقة وانحسار لمفهوم الدولة الوطنية الجامعة، بل وتفككها في بعض الحالات.