Alturjman

عالم الأزياء

رحلة في تاريخ الموضة

عرض: نادية شكري

تقدم الباحثة الألمانية باربارا فينكنأستاذة الأدب وفقه اللغة في جامعة لودفيج ماكسيميليان بميونيخفي كتابها عالم الأزياء.. رحلة في تاريخ الموضة دراسةً معمقةً عن أصول الموضات الغربية وتطورها والأفكار الأصلية التي نبتت منها، والتراث الذي استعارته واستفادت منه في تقديم ملابس جديدة، تستعرض فينكن الظروف والملابسات الاجتماعية والسياسية التي أحدثت تغييرات في الأزياء، كما تناقش تعليقات المفكرين والفلاسفة عليها، والمحاولات المضنية التي بذلوها من أجل إصلاحها لكي تكون متوافقة مع الحداثة الغربية، كما تستعرض المؤلفة دور المصممين اليابانيين الثلاثة الكبار إيساي مياكاي وراي كاواكوبو ويودي ياماموتو في إحداث ثورة جذرية في المفهوم الغربي للأزياء.

عن المؤلفة

أستاذة الأدب وفقه اللغة في جامعة لودفيج ماكسيميليان- ميونيخ من مواليد 1960 في هانوفر، وتُدرس مؤخرا في نيويورك وباريس وشيكاغو، تكتب لصحف دي تسايت ونويه تسويرشر تسايتونج وشيشرو وهي ضيف دائم على شاشات التلفزيون.

عن الكتاب

دراسةً معمقةً عن أصول الموضات الغربية وتطورها تثبت أن الملابس العصرية ليست إلا ترسيخاً لمفهوم غربي رأسمالي حوّل المرأة إلي موضوع جنسي.

كيف بدأت الثورة في المفهوم الغربي للأزياء من اليابان؟

أدباء ومفكرون يدعون لإصلاح الموضة

تؤكد فينكن أن بيير بورديو وإميل زولا وفريدريش نيتشه وأدولف لوس وجون كارل فلويجل وإدوارد فوكس وثورستاين فيبلين وحتى جورج زيميل دعوا إلى ضرورة إصلاح الموضة الغربية، وطالب بعضهم بالتخلص منها، وقد وصفوها -بعد استبعاد مصممي الأزياء «الرجالَ» منها- بأنها صارت رذيلةً أنثويةً مخنثةً ومدمرة، وذكر بعضهم أنها تُسْتَمدُ من العلاقات بين الرجل والمرأة في القرون الوسطى، ومن العلاقات الرأسمالية الشرقية بين الجنسين في زمن الحداثة، كما رأوها نمطاً من التشكيل الخارجي الذي يُصنف المرأة في نهاية المطاف باعتبارها جاريةً أو جسدًا محضاً يتعين عليها أن تختبر قدرة أسيادها على الإنفاق، بعد أن جعلها مصممو الأزياء كائناً غير قادر على التصرف، وقدموها في صورة امرأة رخيصة.

تلاحظ المؤلفة إلى أن كل الدعوات التي صدرت من المفكرين ومعها محاولات عدد من مصممي الأزياء لم تنجح في تطوير ملابس المرأة نحو موضةٍ عقلانيةٍ تدمج جسد المرأة في حالة جماعية أو تحدث نوعاً من التوحيد مثلما حدث في أزياء الرجال من خلال البدلة، كما لم تظهر موضة حداثية كان توقعها مفكرون مثل نيتشه عقب «تحرر المرأة» الغربية المفترض، وظلت حتى اليوم ترتدي ملابسها من منطلق الجاذبية الجنسية، وتشير فينكن إلى أن العاطلين والمتأنقين ومعهم النساء ما زالوا يُعلقون كل قيمة في العالم على ملابسهم سريعة التغير، والتي تهيمن عليها مفارقات تاريخية من كل شكلٍ ونوع، ويبدو البعد الإثاري فيها جلياً، بعد ما فشلوا في تحقيق النموذج المثالي الأوروبي الذي دعا إليه نيتشه عن الرجل المثقف الذي يظهر في ملابسه أن لديه ما هو أهم من الانشغال بما يرتديه، وأنه معني بالتوافق بشكل صحيح مع التقاليد والعُرف، وهكذا ظلت الأزياء نطاقا تهيمن عليه الأنثوية.

سلطة التسليع والتشيؤ

لفتت فينكن إلى أن سلطة التسليع والتشيؤ في الرأسمالية المعاصرة، والتي تحول كل شيء لمنتج قابل للاستهلاك والبيع والتسويق وتحقيق الربح، استعمرت المرأة الأوروبية الغربية من داخلها، واستغلت تصورها عن التحرر، بغض النظر عن مدى صحته من عدمه، لتروج وتنشئ صناعاتٍ هائلةً تقوم بالأساس على رغباتها، ورغبات الرجل المرتبطة بها أيضاً، وعلى مفاهيم صنع الرغبة في الاستهلاك، دون أن تهتم بتلبية الاحتياجات الطبيعية العقلانية، وقد خلقت ما سماه إميل زولا «جنة النساء» في روايته التي حملت نفس العنوان، حيث المتاجر الكبيرة أو معابد الاستهلاك، وحيث تصبح الأنوثة سلعة وتصبح السلعة أنثوية، وحيث لا شيء أهم من الفُرجة على الأنوثة.

وقد أحدث اقتحام ثلاثة من المصممين اليابانيين معقل الموضة الغربية محملين بنظرة نقدية من الخارج وتراث مغاير لمعايير اللبس –كما تقول المؤلفة- ثورةً في عالم الأزياء الغربي، وأصبح ما بعد أول عرض لليابانية «راي كواكوبو» «كوم دي جارسون» في باريس عام 1981 مختلفاً عما قبله، وقدم الثلاثة الكبار «مياكاي» و»كاواكوبو» و»ياماموتو» رؤى تتقاطع مع التصورات الجمالية والإثارية في الغرب، بدت هجومية أحيانا وساخرة في معظم الأحيان، وجعلوا من التاريخ المجنون للأزياء الغربية، ومعكوس مفاهيمها «الذكورة والأنوثة والأناقة والإثارة الجنسية» مادة خاما لها، وقد عرضوها بسلاسة وخفة من خلال تجاوزها أو السخرية منها، وكشفوا بوضوح الارتكازات الجمالية والإثارية المطوّرة تاريخياً في أوروبا من أجل تغييرها بشكل جذري.

لا تتوقف فينكن في الكتاب عند هذا الحد، بل تلقي الضوء على دور ماري إنطوانيت والأمير الفرنسي لويس فيليب دي أورليون وعاهرات الطبقة العليا الفرنسيات في القرن الـ 19 اللاتي أصبحن عشيقات للملوك، كما تتبعت صورة المرأة في التراث الكلاسيكي الأوروبي اليوناني الروماني، ورؤية الغرب للشرق والثورة الفرنسية نفسها كنقطة تحول اجتماعي وسياسي لصالح البورجوازية على حساب النبلاء والأرستقراطيين، وغيرها من العناصر الفاعلة في رسم الصورة النهائية لعالم الأزياء الغربي.

المرأة ككائن جنسي خارج جماعة الرجال

وقدمت الباحثة في فصل يحمل عنوان «الأزياء تسير على الأثر: تاريخ مختلف قليلا للموضة»، رحلة في تاريخ الموضة، وأشارت إلى أن هناك سمتين أساسيتين صارتا تحددان الموضة النسائية الغربية الحديثة، الأولى هي الابتعاد عن «الأنوثة»، حيث صار تجاوز معاييرها هو جوهر الموضة، أما الثانية فتركزت في الحرص على أن تبقى المرأة كائناً جنسياً خارج جماعة الرجال، وقد أصبحت الكينونة الإنسانية الجديدة مشكلة بالنسبة للمرأة، ولم تعد المعالم الجسمانية المميزة للفرد تُفهم في سياق تجليها المباشر كعنوان هوية في نظام أعلى، بل تم تجاوزها وتهذيبها بحيث ترقى إلى مستوى كيان جسدي جمعي، وقد صارت مُهمة الموضة الرجالية في العصر الحديث هي أن تشكل ذلك الطابع المشترك الجديد، وأصبحت فيما يخص حداثيتها الخاصة شيئا أكبر من الموضة، فما ينبغي أن تضمنه هو صفة الديمومة والثبات الذي يتجاوز السمات الشخصية، والوظيفة الأساسية لتلك الموضة هي أن تجعل نفسها مَلبساً غير ملفت للانتباه، لكي يُمكنها أن تبرز الجسد المؤسسي وتخلق له صورة بصرية، إن لم تجعله واضحاً تماماً للعيان.

ملابس عصرية وظيفية

هنا، وحسب رأي فينكن، يبدو الرجلُ عصرياً في ملبسه، حين يتجرد من كل ما هو موضة، وقد أصبحت البدلة العملية الخالية من الزخارف المفرطة المبتذلة هي الزي الكلاسيكي في العالم كله منذ أكثر من قرن من الزمان، ويكمن نجاحها وانتشارها الاستثنائي على مستوى العالم في أنها قطعة ملابس مثالية وعصرية، جميلة لأنها عملية وبسيطة وحقيقية وموحية، وتكاد تكون رمزاً رصينا للفضائل المسيحية الخالصة التي يجب أن يُجسدها البورجوازي مثل ضبط النفس والتواضع والعفة، وقد صبغت الموضة الذكورية التسامي الذاتي بصبغة علمانية مدنية، فلم تعد بنية تعاليم الكيان المزدوج تقتصر على الأمور الأخروية، كما هو الحال في عقيدة الحق الإلهي، وإنما صارت دالة على ديمومة الأشخاص الاعتباريين على مستوى التاريخ، فهم يجسدون من خلال اللبس مناصبهم وهيئاتهم الوظيفية، ويجسدون –من خلال تجاوز عشوائيتهم الفردية- الدولةَ والديمقراطيةَ والمعرفةَ والسلطةَ والمال، فالغرض من ارتداء الرجل لملبسه ليس أن يكون جميلاً، بل أن يكون متسقاً ومناسباً ومتوافقاً مع وظيفته، وأن يكون لائقاً في الصورة، وليس خارجا عن إطارها، بمعنى أن يرتدي أو يتقلد المرء هيئته السليمة، ويرتدي الملابس المناسبة للمنصب الذي يريد أن يتقلده.

عواقب انهيار النظام الكوني على الموضة

كان لانهيار النظام الكوني –حسب فينكن- عواقب أخرى على موضة النساء، فلم يؤدِ إلى تشكيل كيان مؤسسي وطني ذي طابع أنثوي، وبل قام النظام الجديد المصطبغ بالقيم الجمهورية على استبعاد كل ما يتعلق بالأنثى التي كانت معزولة في حرملك الأسرة، وكانت جسماً غريباً على تلك المنظومة الاجتماعية، ما جعل الموضة النسائية لا تهتم بالتوحيد بل التمييز، وأصبح استعراض المفاتن على الطريقة الأرستقراطية فيما بعد الثورة الفرنسية ميزة للنساء، وعبئا عليهن من منظور آخر، فبينما تُخفي موضة الرجال المعالم الجنسية، تقوم موضة النساء بشكل أساسي على تحديد وإبراز معالمهن الجنسية، وهكذا يمكن القول أنه لا تخلو موضة نسائية من التلاعب المثير جنسيا ما بين القماش وبشرة المرأة، وقد وجدت الشهوانية الجسدية في موضة طبقة الاستقراطية ما بعد الثورة الفرنسية ضالتها في جسد الأنثى، وفجرت فيه تجليات مثيرة ومدهشة، وكان هذا التباين الذي أحدثته الموضة بين الجنسين هائلاً، إلى حد أن هناك من اعتبر موضة الأزياء النسائية استعراضاً إيروتيكيا.

إدخال الأزياء الرجالية في الموضة النسائية

لم يعد جمال الجسد الفردي في العصر الحديث حسب ما ذكرت «فينكن» مُدمجاً في نظام كوني أعلى، وقد أصبح الجسد البشري وجاذبيته الفاتنة وفناؤه وتفرد لحظته العابرة تشبيكة أساسية في ملابس النساء التي باتت تحيل الشخص إلى جسد صرف متعين، وفي الوقت نفسه أبرزت الحداثة حالة الطموح نحو التغلب على «الثنائية الشكلية» للجنسين، وكانت الكلمة السحرية الدالة على ذلك المعنى هي الجنس الموحد، وكان الشرط الأساسي لتحقيق المساواة بين الجنسين في إطار تلك الثنائية الشكلية هو التخلي عن محددات وعناصر التخنيث الأنثوي والتغلب عليها، وهو ما يحدث عملياً من خلال إدخال الأزياء الرجالية في الموضة النسائية، ويعتبر هذا النقل هو المبدأ المفصلي في موضة الحداثة، والذي ينبغي أن يُطلق عليها بحق «ارتداء ملابس الجنس الآخر»، وهكذا انتقلت موضة الرجال بالشكل الذي تطورت إليه في القرن 18 عند طبقة النبلاء الإنجليز إلى الموضة النسائية في العصر الحديث، وتمكنت من أن تحقق مفارقتها التاريخية وتصبح حداثية.

استعراض المفاتن

أصبح استعراض المفاتن على الطريقة الأرستقراطية فيما بعد الثورة الفرنسية ميزة للنساء، وعبئا عليهن من منظور آخر، فبينما تُخفي موضة الرجال المعالم الجنسية، تقوم موضة النساء بشكل أساسي على تحديد وإبراز معالمهن الجنسية، وهكذا يمكن القول أنه لا تخلو موضة نسائية من التلاعب المثير جنسيا ما بين القماش وبشرة المرأة،

الكشف والستر

لا توجد قواسم مشتركة بين هذه السيقان والسيقان الكلاسيكية للمرأة التي حددتها لعبة “الكشف والستر” من خلال الجوارب الشفافة الرقيقة، وبشكل عام تم استبدال جوارب النايلون في الثلاثينيات بجوارب خيالية

أبرزت الحداثة حالة الطموح نحو التغلب على «الثنائية الشكلية» للجنسين، وكانت الكلمة السحرية الدالة على ذلك المعنى هي الجنس الموحد، وكان الشرط الأساسي لتحقيق المساواة بين الجنسين في إطار تلك الثنائية الشكلية هو التخلي عن محددات وعناصر التخنيث الأنثوي والتغلب عليها، وهو ما يحدث عملياً من خلال إدخال الأزياء الرجالية في الموضة النسائية

موضة الحداثة

أزياء رجال القرن 18 انتقلت لنساء اليوم

السيقان الجديدة للنساء

مانهاتن في شهر مارس.. أقف أمام النافذة أُلقي نظرةً على ميدان واشنطن في التاسعة صباحا، عبر الميدان يسير الناس بطريقة محددة الهدف إلى المدارس وإلى الجامعة وإلى المحلات التجارية، البوابون يرتدون زي عملهم الرسمي ينظفون الشوارع وأفنية المنازل، يُطلق من ينتمي من هؤلاء الناس إلى أصول لاتينيىة والأصغر سنا على وجه الخصوص لحى قصيرة مهذبة الحلاقة، أما الرجال الذين لا يرتدون زيا رسميا فيحددون بنمطين من الملابس الصورة العامة للشارع: بدلة ضيقة نوعا ما مع معطف قصير بألوان “مطفية”، بليزر مع بنطلون من الصوف أو القطن، والأحذية كلاسيكية منخفضة الكعب، مزينة بثقوب على الجانبين، وبدلا من حذاء التسكع بدون كعب أو البنطلون الجينز يرتدون بنطلونا من القطن الثقيل المضلع مع جاكت قصير ضيق يُغلق تحت الخصر أو تحت الإلية، وحذاء رياضيا أو حذاء منخفضا على النمط الرياضي غامق اللون، وكلاهما ليس محكم الغلق، وعلى الرأس شعر قصير، والشباب الذين يرتدون ملابس على غرار رجال العصابات لم يبدأوا بعد التجول في الشوارع، وبدل التريض الفضفاضة التي يلبسونها ليست من النوع الذي يؤكد ملامح الجسد.

ترتبط الصور الظلية الأنثوية فقط بالسيقان والسيقان طويلة، طويلة جدا، حتى تكون الخطوة مرئية في الغالب، سيقان في “ستريتش” طويل أو بنطلون ضيق، سيقان في جوارب غير شفافة، في شورت قصير أو تنورة قصيرة جدا، ومعها “بوت” طويل جدا يصل حتى الركبة في كثير من الأحيان، هذه الأحذية الطويلة في الغالب مستوية بلا كعب، أما الأحذية الأقصر فطياتها واسعة أو مكتنزة وخشنة، تقريبا عسكرية، ولها كعبٌ مُضلع، وكثيرا ما تتم إطالة الساقين إلى ما لا نهاية باستخدام نعل سميك مسطح، وبوت (UGGs) يرتديه الناس الآن في جميع الظروف المعيشية والمتغيرات في جميع أنحاء العالم: البوت الكلاسيكي من جلد الغنم الأسود أو البني، ومطرز بأزرار مثل السترة، وبهذه الأحذية لا يستطيع المرء أن يركض أو يتبختر، بل يمشي في حالة من الصرامة، تلك الأحذية ذات الطيات اللينة تذكرنا بالعمال الأجراء، وتذكرنا خشونتها واكتنازها بواضعي الفخاخ في الغرب البري: “هذه الأحذية مصنوعة للمشي”.

لا توجد قواسم مشتركة بين هذه السيقان والسيقان الكلاسيكية للمرأة التي حددتها لعبة “الكشف والستر” من خلال الجوارب الشفافة الرقيقة، وبشكل عام تم استبدال جوارب النايلون في الثلاثينيات بجوارب خيالية، جوارب الشبكة والكروشيه والدانتيلا الفخمة اللامعة، وجوارب عينات الألوان الناعمة والجوارب المطرزة، والجوارب الصوفية الملونة السميكة، والجوارب الاستريتش وجوارب فوق الركبة، وهو ما أعطى للجوارب والجوارب الطويلة على وجه الخصوص أهمية كبيرة جدا، لا تتصدر الساق العارية -التي يفترض أن توحي الجوارب النايلون بأنها سيقان حريرية عارية- المشهد بل تأتي الساق المحبوكة المزينة المطرزة في المقدمة، وهنا يُطرحُ السؤال الحاسم عن تاريخ “التنورة” وكذلك السؤال المصاحب لجورب الحرير نفسه: ما هو أقصى ارتفاع من الساق يمكن رؤيته؟ ما مدى القصر أو الارتفاع الذي تُقص عنده التنورة؟، أما السؤال عما إذا كان بإمكان المرء أن يرى ما تحت تنورة المرأة أثناء مشيها أو جلوسها أو حتى الانحناء تحت جيبتها، سواء كانت مرتفعة جدا أو ضيقة بدرجة كاشفة جدا، أو كانت شفافة جدا، أو حتى تتأرجح هفهافة فوق رأسه – فقد تم تجاوزه.

عندما كانت مارلين مونرو في أحد أيام صيف نيويورك الحارة داخل مترو الأنفاق وأطار الهواء البارد تنورتها عاليا أصبحت أيقونة للإثارة الجنسية في القرن الماضي، فرؤية الفخذين ترمز إلى أن الرجل قد وصل إلى هدف رغبته، ومنذ ظهور مارلين ديتريش في “الملاك الأزرق” وحتى سلسلة “جنون الرجال” التي عرضت في ستينيات القرن الماضي تحولت حمالة الجورب إلى صيغة مختصرة لممارسة الجنس، لا يستطيع المرء أن يرى أكثر من رباط الجورب، هذا ما قيل في رواية [دنيس] ديدروت “جاك القَدَرِي” -التي قيل عنها أنها رواية لا نهاية لها حول لا شيء.. حول رباط الجورب- وهو ما قيل أيضا عن مسلسل “جنون الرجال”، وكانت مهمة التنورة هي أن تكشف عن الساق حتى نقطة معينة وأن تخفي الجنس، لكن هذه الوظيفة لم تعد ذات صلة في حالة السيقان التي تسير في ميدان واشنطن حيث خرج جنس الأنوثة من حيز الاهتمام باعتباره منطقة العانة، وما خطا أبعد من ذلك وظهر واضحا في الميدان هو نوع جديد من السيقان كان محددا لمشهد الشارع على مدى السنوات العشر الماضية، وحتى الآن فشلت جميع المحاولات لاستبدال هذه الصورة الظلية بغيرها – كالبنطلون الواسع عند نهاياته [رجل الفيل] التي زادت طولا، والتنورة المطوية المتأرجحة حول الركبة، وقد أظهر استحضار التنورة البليسيه بألوان باستيل الستينات مع جلسة الفيسبا -كما قدمها بيت أزياء برادا إلى المرأة- أكثر من أي شيء آخر أن التنورة قد عادت الآن كاقتباس، كموضة كلاسيكية قديمة، لذلك يمكن مغازلة المرأة مع هذه الأنوثة الجديدة – القديمة – على طريقة “تحيا ماما”.

الجزء العلوي ينتهي أبعد من ذلك، تقريبا أسفل الردفين، وأحيانا يمكنك أن ترى إيحاء من تنورة بالون [برميل] قصيرة جدا، وحتى عندما ترتدي المرأة معطفا ضيقا قصيرا وتقليديا جدا مثل معطف الفستان مع “هاف بوت” يتركز الاهتمام على السيقان الطويلة الملفوفة في جورب غير شفاف ضيق، وفي الصيف يتم استبدال الأحذية العالية بحذاء راقصة الباليه أو الحذاء الخشبي المسطح، واللون – نحن مازلنا في نيويورك – أسود في الغالب، والتنويعة الأكثر فخامة لهذا المظهر هي البناطيل الجلدية الضيقة مع بوت كاحل والتي يتم ارتداؤها مع سترة كشمير واسعة وجيليه قصير من الفرو، أو أحذية عالية من الجلد الناعم الطري بنفس مرونة الجوارب ومرتفعة فوق الركبة.

تضع جميع النساء تقريبا ماكياج، أحمر شفاه، والأصغر سنا منهن يضعن في كثير من الأحيان طلاء جفون سائل، والرموش الصناعية موضة سائدة، ويرتدي الجميع تقريبا مجوهرات: أقراط وقلائد وأساور بدلايات، لم تعد المجوهرات مجموعة واحدة، فالأقراط لم تعد تتناسب مع القلائد، فقط لم تعد هناك مجموعات فخمة تحمل تشابهات وتندرج في إطار محدد، هذه المجوهرات لم تعد تعطي الانطباع الذي كانت تعطيه المجوهرات من قبل: نموذج التكنيك والفن والحرفية، هي الآن مجرد أشياء تم العثور عليها؛ ويوحي وضعها معا بالمصادفات، فهي مجرد رمز لذكرى فردية، وفي بعض الأحيان توحي بأنها شيء صُنع في المنزل وتبدو كهدية من فتاة صغيرة، وأحيانا تبدو كقطعة عرض إثنولوجي صنعها الهنود الحمر أو غيرهم من “الشعوب البدائية” يدويا، أو تبدو كبقايا عصر التصنيع الملحمي وجدها المرء في قاعة مصنع باعتبارها أنتيكة من زمن الحداثة، مصنوعة بشكل عشوائي وليست مصنوعة وفقا لتخطيط فني مثل مجوهرات أمهاتنا وجداتنا.

يؤكد بعض الرجال -معظمهم من الشباب النحيلين الذين يهتمون بارتداء ملابس جيدة بشكل واضح- على الساقين ببناطيل ضيقة جدا ومعاطف تنتهي فوق الركبة، لكنهم يأتون في وقت متأخر من اليوم للتنزه في الميدان، وهذا المخطط الذي يزيح خط الوسط إلى أسفل يبرز النسب [نسب الجسد] بشكل مختلف، فهل يُمثل هذا التحول في الصورة الظلية تغييرا أساسيا؟ لقد وجدت الصورة الظلية للرجل شكلها الكلاسيكي في البدلة الحديثة، البدلة لا تقولب الجسم بشدة لكنها تجعله مثاليا في صيغة الشكل الذكوري الكلاسيكي “V”، ومع فخذين رفيعين وكتفين عريضين يصبح البورجوازي بطلا رياضيا، وجاكت البدلة يغطي الأرداف والعضو الجنسي، ولا توجد لعبة “كشف” جزء من البشرة و“ستر” جزء بالقماش، وباستثناء الوجه واليدين لا يُرى شيئ من الجسد، وإذا كانت بناطيل الشباب الضيقة تجعل هذه الصورة الكلاسيكية للرجل مختلفة فإن الصورة الظلية للأنثى بسيقان طويلة أو مغطاة بجوارب غير شفافة أو مشدودة هي صورة جديدة تماما، فالمرأة لم ترتد تلك الملابس من قبل.

بينما لم تتعرض الصورة الظلية للرجل سوى لتغيرات محدودة وظلت نسبها الأساسية لنحو 200 سنة تقريبا محافظة على استمراريتها الكلاسيكية شهدت الصورة الظلية للمرأة تغييرات سريعة خلال تلك الفترة، وفي مقابل الموضة الكلاسيكية والحداثية-الكلاسيكية للرجل هناك موضة تاريخية للنساء يبدو أنها تغترف من معين أزياء لا ينضب كما لو كان صندوق ملابس في ذاكرة لا حدود لها، وفي مقابل الاستمرارية الحداثية-الكلاسيكية في جانب الرجل هناك إعادة تدوير تاريخية في جانب المرأة يعتبرها البعض تعسفية ومرهقة، والموضة النسائية ليست حديثة وإنما تنطوي على مفارقة تاريخية.

تحول كل شيء منذ فترة طويلة -بشكل عشوائي على ما يبدو- إلى خدعة أننا نعيش في زمن إعادة إحياء الأربعينات والخمسينات والستينات، ولا يعرف المرء أحيانا ما إذا كانت السبعينات أو الثمانينات احتفت أيضا بعودة إلى الماضي، ومن خلال أُنطوان واتو أو ماري أنطوانيت التي تبدو كشبح في فاترينات عرض سلسلة بارنيز [نيويورك] يعود إلينا القرن الـ 18، فكلما نُسيت موضة لم تعد تعتبر قديمة، ويمكن إعطاؤها قبلة الحياة لتصبح أحدث صيحة، ولذلك يتحدث الناس عن “تعسف استبدادي” للموضة التي تفرض أهواءها فجأة.

لكن هذا الانطباع خادع: فالموضات لا تتطور بشكل لا يمكن التنبؤ به كليةً، وهي ليست نتيجة للمصادفة العمياء، ولذلك من الممكن جدا أن “نفهم الموضة”. فتغيراتها تتسم بسمات هيكلية معينة وتتبع قوانين محددة، وهذا لا يعني أنه يمكن توقع الموضة في تطورها الملموس، ومع ذلك فإن تطورها محتمل ضمن أنماط معينة فقط، أما الخيارات المقترحة وكيفية تحويلها إلى واقع ملموس فلا يمكن تحديده إلا في مرحلة تالية لحدوثه، فاللجوء إلى صندوق أزياء تاريخي على سبيل المثال ليس تعسفيا ولا خاليا من المعنى، فكل شيء داخل ذلك الصندوق جميل جدا بدرجة يصعب معها أن أختار- وحتى عندما لا يكون لدينا -نحن الذين نرتدي هذه الموضات بأنفسنا- أي فكرة عما نقوم به عندما نرتديه: فإن تغيير الموضة يقوم على نظام، لكن المرء يتعجب من ماهية هذا النظام.

لِنَعُد إلى سيقان النساء الجديدة فقد تساعدنا على بداية الرحلة، لقد تمت مقارنة السيقان العالية الجديدة مع السيقان المترنحة لمُمْتَلِئي الجِسْمِ وبذلك تم التوصل لتأكيد إضافي للاتجاه نحو الفتاة الأصغر سنا التي تقترب من مرحلة البلوغ، وإلقاء نظرة على التاريخ هنا مفيدة أكثر من إلقاء نظرة على الطبيعة، فالسيقان الجديدة للنساء تبرز مثل سيقان الرجال قديما، ويعود الفضل في ذلك إلى نوع من النقل الثقافي، وهي ليست موضة حديثة من موضات الرجال حدث لها تحول الآن، بل هي موضة رجالية قبل الانفصال الذي غيَّر كل شيء، عندما كان الرجال لا يقلون عن النساء تباهيا باستعراض جاذبيتهم الجسدية وعرض محفزاتهم المادية، بل كانوا أكثر استعراضا من النساء بين القرنين الـ 15 والـ 18، وكان الرجال هم الجنس الجميل.

موضة عقلا نية

تلاحظ المؤلفة أن كل الدعوات التي صدرت من المفكرين ومعها محاولات عدد من مصممي الأزياء لم تنجح في تطوير ملابس المرأة نحو موضةٍ عقلانيةٍ تدمج جسد المرأة في حالة جماعية أو تحدث نوعاً من التوحيد مثلما حدث في أزياء الرجال من خلال البدلة

تىنورة مارلين مونرو

عندما كانت مارلين مونرو في أحد أيام صيف نيويورك الحارة داخل مترو الأنفاق وأطار الهواء البارد تنورتها عاليا أصبحت أيقونة للإثارة الجنسية في القرن الماضي، فرؤية الفخذين ترمز إلى أن الرجل قد وصل إلى هدف رغبته

وفي مقابل الموضة الكلاسيكية والحداثية-الكلاسيكية للرجل هناك موضة تاريخية للنساء يبدو أنها تغترف من معين أزياء لا ينضب كما لو كان صندوق ملابس في ذاكرة لا حدود لها، وفي مقابل الاستمرارية الحداثية-الكلاسيكية في جانب الرجل هناك إعادة تدوير تاريخية في جانب المرأة يعتبرها البعض تعسفية ومرهقة، والموضة النسائية ليست حديثة وإنما تنطوي على مفارقة تاريخية.

عندما كان الرجال يظهرون سيقانهم

في صور الرجال في عصر النهضة الفلمنكية والإيطالية نرى الساق الطويلة العارية حتى أعلاها والتي يزيد الحذاء من طولها بصريا وتبرز الجوارب الملونة أو المخططة أو حتى البيضاء اللامعة –التي كانت مفضلة أكثر من غيرها- صورتها الظلية، ولهذا أصله في المَلاَبِس العسكريَّة، ففي زمن الإمبراطور كارل الخامس كانت تلك الساق الطويلة النحيفة تغطى بجوارب ذات ألوان أحادية أقل بهرجة، لكنها تظهر بملامح واضحة تحت تنورة قصيرة منفوخة [تنورة برميل] هي الطماقات العسكرية الأسبانية أو تحت سراويل قصيرة تغطي أعلى الفحذ، وبالمناسبة كانت هذه الطماقات العسكرية فضفاضة جدا حتى أن مقاعد البرلمان البريطاني في عهد إليزابيث الأولى كان يتعين توسيعها لتسمح بجلوس الرجال، وقد ظهر كارل الخامس “بساقين جميلتين” في جوارب ثمينة متماسكة، هذه الجوارب المعروفة أيضا باسم “بناطيل تريكو” كانت تزين أحيانا بتطريز دقيق، وكانت الجوارب الحريرية أمرا خاصا بالرجال في أوروبا زمن عصر النهضة، وقد أهدى البلاط الإسباني الملك هنري الثامن قطعةً فاخرة من الجوارب الحريرية الطويلة، ولم تكن الثورات التقنية مثل اختراع جوارب النايلون بدون خياطة من أجل سيقان النساء في ذلك الوقت بل من أجل سيقان الرجال، وقد أثارت جوارب الرجال بدون خياطة ضجة كبيرة مثلما حدث للمرة الأولى لجوارب النساء الحريرية ثم جوارب النايلون في أوروبا وأمريكا ما بين 1950 و1980، فشغل لمعانها وثباتها وحساسيتها ودرجة ليونتها أعدادا كبيرة من الباحثين والمصممين، وأصبحت رمزا للإثارة الجنسية الأنثوية من خلال غرزة المشي إلى الحمالة، ومن القاعدة الخالية من التجاعيد وحتى الحرير الملون المجعد من الخلف.

كان الرجال في بعض الأحيان يجمعون ما بين جوارب النايلون بدون خياطة والأحذية المدببة المصنوعة من الجلد بنفس اللون فيطيلون الساق بصريا، وفي كثير من الأحيان يرتدون أحذية ناعمة أنيقة ذات كعوب، وقد عرض لويس الـ 14 ساقين جميلتين –كما لو كانتا لراقص متميز- في جوارب حريرية بيضاء لامعة، وبدت أكثر امتدادا من خلال حذاء بكعب أحمر وحزام صغير، وفي القرن الـ 17 كانت الكعوب للرجال فقط في البداية، حتى تعلمتها النساء منهم، ونقلت الأرستقراطية الأوروبية هذه الموضة من الشرق، كما نشأت في الجيش أيضا: فكان الفرسان الفارسيون يرتدون أحذية ذات كعوب لكي يمكنهم إطلاق الأقواس وهم واقفين فوق عربات متحركة، ولم تكن الأحذية ذات الكعوب خاصة بالمشي بل بالركوب، وكان للكعوب في الأصل داعٍ عسكري استمر من خلال أحذية رعاة البقر، وفي بلاط لويس الـ 14 تحولت الكعوب إلى رمز للمكانة وكان لونها امتيازا ملكيا: ولم يكن مسموحا إلا للبلاط بارتداء النعل الأحمر والكعب الأحمر بموجب مرسوم(6) 1670، وكان الأباطرة والرؤساء الفرنسيون قصيرو القامة مثل نابليون قديما وحتى ميتران أو ساركوزي حديثا يسيرون وفق تقليد لويس الرابع عشر الذي كان طوله 163 سنتيمترا فقط، واختفت الكعوب التي كانت في القرن الـ 18 من الموضات الرجالية الوظيفية، ولا يرتديها رؤساء الدول الحديثة حاليا إلا سرا، ومع ذلك هناك استمرارية مثيرة للدهشة، فقد ذهب كريستيان لوبوتان ملك الحذاء الجديد الذي يصنع الأحذية لكل امرأة ستسير مسافة بضعة أميال- وإن لم يكن في لوبوتان- إلى المحكمة لإثبات أن “نعله” الأحمر هو منتج ينفرد وحده بإنتاجه، ومنذ ذلك الحين أصبح النعل الأحمر أيقونة أنثوية بشكل حصري، وأصبحت سيقان الرجال الجميلة ذات الجوارب المشدودة ما قبل الثورة هي سيقان النساء الجديدة، وسارت النساء – بكعب أو بدون كعب- بخطوات حرة استعراضية سواء كن يتحركن نحو هدف محدد أو يتجولن في المكان مثل رجال عصر النهضة.

قبل الثورة كان الرجال يبرزون السيقان والمؤخرة والعضو الجنسي، على عكس النساء اللاتي كن يخفين كل ذلك بصرامة، فرؤية كاحل المرأة كانت [كما يعتقد حينئذ]تجلب سن اليأس، وأصبحت تلك التركيبة -التنورة مقابل البنطلون والستر مقابل الكشف- على مر القرون قاعدة ملزمة توحي بمؤشرات اختبار لا تخطيء عن جنس الشخص، وحتى القرن الـ 18 كانت المرأة ترتدي ملابس مثل الرجل في كثير من الأحيان، لأنها بهذه الطريقة تستطيع أن تقوم بما هو حصري للرجال، كالسفر وحدها، والإبحار على متن السفن، والجلوس على صهوة جواد أو الذهاب إلى الحرب، والمثال البارز على ارتداء ملابس الجنس الآخر هو “جان دارك”، وكان المعتاد في حالة مجيء شخص ما إلى دير في ملابس الرجال وشك الموجودون في أنه امرأة ألقوا إليه بتفاحة، فإذا فتح ساقيه عند التقاطها حتى تسقط في حجره أدركوا أن من يرتدي السرول هو امرأة – أو أنه على الأقل معتاد على ارتداء التنورة، وإذا أغلق ساقيه من أجل تحقيق نفس الغرض كان رجلا أو على الأقل رجلا معتادا على ارتداء السراويل.

وبالنسبة للرجال ما قبل الثورة لم تكن السيقان فقط موضوعا للعرض؛ بل كانوا يبرزون أيضا العضو الأكثر فائدة للمجتمع البشري بشكل جيد، فكان “سادة الخلق” يبالغون في حجمه بشكل لافت ويزينونه بطريقة خيالية من خلال كبسولة أعلى الفخذين، ولكي يبدو منتصبا طول الوقت كانوا يبالغون في تزيينه بأشرطة وحلقات، وكانت الطماقات العسكرية وكبسولات أعلى الفخذين تفتقد إلى السمة الطبيعية، لكنها كانت مشقوقة بجرأة ومبطنة جيدا ومحشوة ومزينة بما يلفت الانتباه إلى جراب الشهوة المبهرج، ومع السراويل الطويلة والتي مثلت نهاية الكلوت المعقود عند الركبة انتهى صياح الديكة واستعراض القوة الجنسية: بعد الثورة الفرنسية تقزمت تلك القطعة وتحولت إلى أنبوب ناعم(8)، ولا تجد تلك الأزياء الرجالية الزاعقة لنفسها مكانا إلا في الموضات الجنسية.

لم تكن السيقان فقط موضوعا للعرض؛ بل كانوا يبرزون أيضا العضو الأكثر فائدة للمجتمع البشري بشكل جيد، فكان “سادة الخلق” يبالغون في حجمه بشكل لافت ويزينونه بطريقة خيالية من خلال كبسولة أعلى الفخذين، ولكي يبدو منتصبا طول الوقت كانوا يبالغون في تزيينه بأشرطة وحلقات، وكانت الطماقات العسكرية وكبسولات أعلى الفخذين تفتقد إلى السمة الطبيعية، لكنها كانت مشقوقة بجرأة ومبطنة

جوارب النايلون

كان الرجال في بعض الأحيان يجمعون ما بين جوارب النايلون بدون خياطة والأحذية المدببة المصنوعة من الجلد بنفس اللون فيطيلون الساق بصريا، وفي كثير من الأحيان يرتدون أحذية ناعمة أنيقة ذات كعوب، وقد عرض لويس الـ 14 ساقين جميلتين –كما لو كانتا لراقص متميز- في جوارب حريرية بيضاء لامعة، وبدت أكثر امتدادا من خلال حذاء بكعب أحمر وحزام صغير، وفي القرن الـ 17 كانت الكعوب للرجال فقط في البداية

سراويل الإمبراطورىة

وفي السراويل التي انتشرت في الإمبراطورية استمرت الموضة التي تركز على الرجولة لفترة قصيرة، فكانت تُثبت بطوق محكم تحت الحذاء، وتُغطي ساق الرجل بإحكام مثل البناطيل التريكو، وكان يتم تأكيد كشف الساق من خلال لون القماش الفاتح

وفي السراويل التي انتشرت في الإمبراطورية استمرت الموضة التي تركز على الرجولة لفترة قصيرة، فكانت تُثبت بطوق محكم تحت الحذاء، وتُغطي ساق الرجل بإحكام مثل البناطيل التريكو، ويتم تأكيد كشف الساق من خلال لون القماش الفاتح، ورغم ذلك لم يستعد الجنس مجده القديم، بل أصبح أكثر طبيعية، ومال زال هناك شك كبير في إجابة نابليون على سؤال خياطي عن الموضع الأفضل لعضوه الذكري. في اليمين أم في اليسار؟ وهو تطهره لوحة “نابليون في مصر” التي رسمها جان-ليون جيروم والموجودة في متحف الفن بجامعة برينستون، تظهر اللوحة ملامح جسد الإمبراطور المنتصر الحزين بوضوح أمام خلفية شرقية من خلال بنطلونه الضيق،
حيث سمح الجينز -الذي جعل مارلون براندو وجيمس دين متناسبين مع هوليوود في الخمسينات- للرجال أن يؤكدوا مرة أخرى على العضو الذكري والأرداف بطريقة معتدلة.

وقد انعكست هذه الموضة الرجالية في التباهي بالذكورية والتأكيد على الخصوبة والقدرة الرياضية، وهي تظهر منظور الجسد المجهز تجهيزا جيدا – من خلال إبراز كل عضلة وكل عصب – أثناء القتال والرقص وركوب الخيل، وهو جسد مرن ورشيق ومتماسك، وعلى النقيض من الجسد المستنفد من نير العمل يظهر هذا الجسد الذي نشأ على الأناقة الرفيعة وضعا منضبطا، ويحول هذا الجسد الضروريات إلى ممارسة أسلوبية، موحيا –وفق لغة فرويد- بالرجولة المهيمنة.

لكن أصل هذا التهذيب ظل مدمجا في الاستعداد للعنف المرتبط بالقضيب، إذا نظرنا إلى صور جلد المسيح في بدايات العصر الحديث سنلاحظ أن هناك ثلاث طرق لكشف الجسد: كانت أجساد الرسل وأصحاب السلطة الروحية والشرعية والنساء متدثرة بطيات سميكة وواسعة، ولا يُكشف منها سوى الوجه واليدان، وفي الرجال نرى الشعر مكشوفا بينما تخفيه النساء.

في هذه الأجساد التي يلفها القماش يبدو من الواضح أن الاهتمام ينصب على شيء آخر غير إظهار الجسد بكامله، فإلى جانب الأجساد المغطاة يظهر الجسد الأعزل العاري الجريح أو -المستور عند الضرورة- في هيئة المسيح والاثنين اللذين أدينا معه، أما [أصحاب] السيقان الطويلة ذات العضلات المفتولة الذين يرتدون سترات ضيقة بألوان لامعة فهم الذين يجرحونهم: إنهم الجنود زبانية التعذيب والجلادون، الإبراز الملفت للسيقان التي تشخصها الجوارب يشير إلى قدرتها ورغبتها في استخدام أجسادها لإصابة الآخرين وإحداث الجروح ودق [المسامير] في أيديهم، تُقدم هذه الأجساد – التي يتم إبرازها بأطراف مفتولة العضلات وملابس ملونة وضيقة ومزخرفة بشكل مبهرج- كأجساد عدوانية، وتتضح سماتها القاتلة بجلاء في تجريحها الشرس لجسد أعزل عار، وقد احتفظت السيقان الجديدة للنساء بكل ما فيها من تحضر بشيء من ذلك الاستعراض الذكوري، وينبعث هذا التأكيد الجسدي في حالة الشد القوية والاستعداد للعنف، ويمنح هذا التباهي الذكوري -الذي تظهره الآن سيقان الرجال القديمة- للنساء شيئا من سمت الروح الحربية الجريئة ويمنحها بالتالي أيضا شيئا من البشاعة الشريرة.

تلك السيقان الطويلة المغطاة بجوارب ثقيلة أو ملتصقة تماما هي اقتباس من أرجل الرجال في زمن ما قبل الثورة [الفرنسية] كما توضح المقارنة بين صورتين رسمهما بيير أوجست رينوار في سنوات 1874 و1875-1876 في عهد الجمهورية الثالثة، والتي سيطر فيها “تشارلز فريدريك وورث كأول مصمم حديث على عالم السيدات الباريسيات، رسم رينوار سيدةً مرتين هي مدام أونريو، وكان رينوار يراعي بدقة أزياء زمنه، وينقل نقوش أزياء الأناقة الباريسية، والصورتان تظهران الشخصية كلها من الرأس إلى أخمص القدمين، مرة كممثلة ترتدي بنطلون، “مدام أونريو إن ترافيستي [مدام أونريو متنكرة]”، ومرة في الزي المدني “لا باريسيان” [الباريسية]، وتظهر لوحة “الباريسية” مدام أونريو ترتدي فستانا صباحيا مبهرا من الحرير الأزرق اللامع استعدادا للخروج من المنزل، وعلى رأسها شعر وقبعة مثبتة لأعلى وكان الأزرق الصارخ لفستان من حرير التفتا الرقيق يسمى “بلو دي ليون” [أزرق ليون]، وقد استخدم هنري بيركنز هذا التألق غير العادي للحرير في 1850، لكنه انتشر في 1860 باستخدام الأنيلين الاصطناعي، وكان الفستان القريب جدا من موديلات “وورث” مثيرا من خلال “مؤخرات باريس”، وكانت حشوة الردف المستعارة واسعة جدا حتى أنه كان يقال إن بالإمكان وضع أشياء عليها كما لو كانت كوميدينو، وفي الوقت نفسه تُغطي التنورة مزدوجةُ الطبقات السيدةَ الرقيقة في شلال من الكشكشات حتى الأرض، وهو نسيج يخفي الجسد أكثر مما يظهره، وتبدو لنا مدام أونريو -ذلك النموذج الأولي المألوف للمرأة الباريسية العصرية- اليوم كما لو كانت ترتدي زيا تنكريا، ومن خلال لفات القماش المجعد بشكل متقن يطل علينا وجه أبيض صغير يبدو تائها قليلا، بينما خصلات الشعر الحرون هي وحدها التي لا تريد أن تمتثل، وربما كان رينوار سعيدا بأن هذا الأزرق الخيالي كان متوفرا في زمنه بفضل الكيمياء وليس من خلال صحن حجر اللازورد الذي كان يكلف العالم كثيرا في العصور الوسطى، ولكن السيدة أونريو تصطبغ بشيء من المواد الرخيصة، فلا تبدو هذه المرأة الباريسية هنا بأي حال كسيدة عالمية ترتدي مثل هذه الفساتين يوما بعد يوم، بل كدمية عرض أزياء مكسوة بالأقمشة، “باريسية” رينوار ليست ذلك النوع من الأزياء في باريس النصف الثاني من القرن الـ 19 التي وصفها إيجون فريدل بشكل جيد: “السيدة العظيمة تلعب دور المومس، وهنا يبدو أن “المومس تحاول أن تلعب دور السيدة العظيمة”، ومع ذلك يكمن تحت الأقمشة الزرقاء نمط موضة الحداثة: لا المومس ولا السيدة العظيمة، بل الفتاة البالغة أو المراهقة، فبعد بضعة عقود لن يكون هناك ارتباط بين لفات النسيج المكشكش على طريقة وورث مع الباريسية، لكن الفتاة المراهقة الصبيانية التي تتميز أساسا بإظهار الساقين.

من ناحية أخرى تبدو السيدة أونريو في البنطلون مألوفة بالنسبة لنا، وتبدو كأنها ترتديه استعدادا للصعود على المسرح، “مدام أونريو المتنكرة” تظهر امرأة بشعرها المجعد المفرود ترتدي فستانا متوهجا من الساتان القصير جدا ناصع البياض، والسيقان الجميلة في جوارب حريرية بيضاء متلألئة، يشعر المشاهد بجسدها، ليس هناك أكثر تضليلا من الترجمة الألمانية المعتادة من “السراويل الملفوفة”، فمدام أونريو لم تكن ترتدي تنورة مثلها مثل الرجال في عصر النهضة، وبالتأكيد أيضا لم تكن ترتدي “سراويل ملفوفة”، مثلما يفعل رجال عصرها، إنها تظهر في المقام الأول ما يختفي عند النساء تحت كشكشات القماش: السيقان، وقد صور رينوار الممثلة في دور باجين يوربان الجميلة في أوبرا “لي هوجينو” [الفرنسيون البروتستانت]لجاكومو ميربير، والتي كانت واحدة من أنجح الأوبرات في القرن الـ 19، والتي تتناول أحداثا جرت في القرن الـ 16 كما يوحي اسمها: قرن سيقان الرجال الملفوفة في جوارب مثيرة، وقامت أونريو بدور السوبرانو باجين في شخصية مارجريت دي فالواز [ملكة نافارا]، لكن الممثلة أونريو لم تكن أبداً مغنية أوبرا ولم تغن.

فما الهدف من التمويه التنكري الذي تنسلخ فيه بطلة الرواية لتلعب ما هو أكثر من مجرد دور رجل، تلعب دور رجل تاريخي؟ الصورة تظهر ساقيها الخاليتين من العيوب، دون أن تكون فاضحة أو مسيئة للسمعة، فلا توجد امرأة مهذبة تظهر ساقيها، فهذا سينقلها على الفور إلى حافة البغاء، ربما كان استعراض ساقي “مدام أونريو” الجميلتين ممكنا فقط من خلال التنكر في هيئة رجل من القرن الـ 16، وهذه هي الإثارة الأنثوية التي رسمت كثيرا في لوحات النساء في النصف الثاني من القرن الـ 19 كلاعبات باليه أو يرتدين “سراويل ملفوفة”، وكان باستطاعة النساء كفارسات وبهلوانات وراقصات أن يستعرضن ما كان يجب على أي امرأة أن تغطيه بعناية دون أن يتعرضن لعقاب، وهكذا استبق نمط صورة “مدام أونريو متنكرة” تطور الموضة في العصر الحديث.

في هذه الأجساد التي يلفها القماش يبدو من الواضح أن الاهتمام ينصب على شيء آخر غير إظهار الجسد بكامله، فإلى جانب الأجساد المغطاة يظهر الجسد الأعزل العاري الجريح أو -المستور عند الضرورة- في هيئة المسيح والاثنين اللذين أدينا معه، أما [أصحاب] السيقان الطويلة ذات العضلات المفتولة الذين يرتدون سترات ضيقة بألوان لامعة فهم الذين يجرحونهم: إنهم الجنود زبانية التعذيب والجلادون،

تلك السيقان

تلك السيقان الطويلة المغطاة بجوارب ثقيلة أو ملتصقة تماما هي اقتباس من أرجل الرجال في زمن ما قبل الثورة [الفرنسية] كما توضح المقارنة بين صورتين رسمهما بيير أوجست رينوار

التمويه التنكرى

الهدف من التمويه التنكري الذي تنسلخ فيه بطلة الرواية لتلعب ما هو أكثر من مجرد دور رجل، تلعب دور رجل تاريخي؟ الصورة تظهر ساقيها الخاليتين من العيوب، دون أن تكون فاضحة أو مسيئة للسمعة، فلا توجد امرأة مهذبة تظهر ساقيها، فهذا سينقلها على الفور إلى حافة البغاء