Alturjman

السلطة والذكاء الاجتماعي

عرض: ياسر مشالي

على عكس التصور السائد عن أن السلطة تقوم على استخدام العنف أو التهديد به وفقا لنظرية ماكس فيبر وتوماس هوبز الكلاسيكية يؤسس ميشائيل باون لنظريته عن أن السلطة تقوم على الذكاء الاجتماعي، أي قدرة البشر المتطورة عبر خبراتهم الطويلة على تجنب الصراعات العنيفة وتنسيق الحياة الاجتماعية، وأن هذا الذكاء الاجتماعي يواجه متطلبات وتحديات أكبر كلما ازداد تعقيد المجتمع، ويعتمد باون مبدأ التوافق الذي سبق وأن طرحته حنا أرندت لكنه يحاول تغطية ثغرات نظرية التوافق مستنداً إلى نتائج الدراسات الاجتماعية والنفسية والتاريخية حول سلوك الجماعات البشرية في حالات الصراع وفي تأسيس هياكل السلطة، وبناء على ذلك التحليل يرى باون أن المجتمعات الغربية الديموقراطية تواجه خطر انهيار ديموقراطيتها نتيجة لزيادة التحديات المطروحة على الذكاء الاجتماعي، وأحد أعراض ذلك الخطر صعود ما يسمى بتيار الشعبوية اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة منذ أوائل السبعينيات وما بعدها، ومن أشهر رموزه حالة الرئيس الأمريكي [السابق] دونالد ترامب وأنصاره.

عن المؤلف

ميشائيل باون من مواليد كريفيلد بألمانيا عام 1956، درس في ماربورج وفرانكفورت وهامبورج، وهو أستاذ زائر في معهد الدراسات المتقدمة في أمهيرست بولاية ماساتشوستس الأمريكية، وزميل بجامعة كورنيل في إيثاكا بنيويورك، وجامعة هانز فيسنشافتس-كوليج في بريمن بألمانيا، حصل على جائزة إرنست بلوخ عام 1997، يعمل حاليًا أستاذًا للفلسفة في جامعة أوتو فون جيريك ماجديبورج، صدر العديد من المؤلفات في فلسفة العقل والفلسفة الثقافية وعلم الجمال وفلسفة التاريخ

الضغوط الخارجية

الضغوط الخارجية التي عززت التماسك الاجتماعي وعلاقات التعاون داخل الجماعة البشرية كانت سببا لنشأة الهياكل الديمقراطية، ويتوافق معها أيضا ضرورة توافر قدر معقول من المساواة الاقتصادية بين شرائح المجتمع، وهذان العاملان [الضغوط الخارجية والمساواة الاقتصادية] كانا أيضًا السبب في التوافق الاجتماعي والسياسي الذي شهدته أوروبا ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية

التوافق وليس الصراع

يضع أستاذ الفلسفة باون أساس نظريته للسلطة، منطلقا من فكرة أنها تقوم على التوافق وليس الصراع، وبالتالي يمثل الذكاء الاجتماعي عاملا حاسما في تشكيل هياكل السلطة، وهنا تلعب السلوكيات اللاواعية وغير العقلانية دوراً أساسيا

- السلطة لا تقوم على استخدام العنف بل على المهارات النفسية والإجتماعية

- الديموقراطيات الغربية تواجه خطر الانهيار لزيادة التحديات المطروحة على “الذكاء الاجتماعي”

ما بين العنوان الرئيسي لهذا الكتاب “السلطة والذكاء الاجتماعي” وعنوانه الفرعي “الديموقراطيات الغربية في خطر” مسافة، يقربها استدلال المؤلف أولا على أن السلطة في مجتمعاتنا البشرية الحديثة لا تقوم على استخدام العنف أو التهديد به.

لفهم ظاهرة “الشعبوية اليمينية” الحالية في أوروبا وأمريكا يضع أستاذ الفلسفة باون أساس نظريته للسلطة، منطلقا من فكرة أنها تقوم على التوافق وليس الصراع، وبالتالي يمثل الذكاء الاجتماعي عاملا حاسما في تشكيل هياكل السلطة، وهنا تلعب السلوكيات اللاواعية وغير العقلانية دوراً أساسيا، ويستعين المؤلف في تفسيرها بنتائج دراسات علم النفس الاجتماعي، والتي تؤكد أن مبدأ الإنصاف عند البشر ليس مجرد مبدأ عقلاني، بل يستند إلى العاطفة أيضًا، وترجع حلول هياكل السلطة الهرمية محل “المساواة في المجتمعات البشرية المبكرة” إلى أسباب اقتصادية ونفسية تكررت في تاريخ البشرية، ومن هنا يوضح المؤلف أفكاره النظرية باستخدام “المراحل الرئيسية التاريخية مثل نشأة الديمقراطية اليونانية والإمبراطورية الرومانية وآثار وباء الطاعون العظيم في العصور الوسطى”.

وفي هذا السياق يثبت المؤلف أن الضغوط الخارجية التي عززت التماسك الاجتماعي وعلاقات التعاون داخل الجماعة البشرية كانت سببا لنشأة الهياكل الديمقراطية، ويتوافق معها أيضا ضرورة توافر قدر معقول من المساواة الاقتصادية بين شرائح المجتمع، وهذان العاملان [الضغوط الخارجية والمساواة الاقتصادية] كانا أيضًا السبب في التوافق الاجتماعي والسياسي الذي شهدته أوروبا ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبالتالي لم تكن الرؤى أو الأهداف التي تحققت في فترة ما بعد الحرب هي الجديد؛ بل الجديد هو أن الرؤى والبرامج التي عُرفت منذ فترة طويلة أصبحت فجأة تحظى بقبول الأغلبية، وفي إطار زمني ضيق للغاية في كثير من الدول”، نتيجة لتغيير الظروف الحاكمة وانحسار الضغوط الخارجية -مع انهيار حلف وارسو- وارتفاع معدلات عدم المساواة الاقتصادية أصبحت الهياكل الديمقراطية بالتالي مهددة.

وعند وضع الذكاء الاجتماعي في الاعتبار يمكن فهم “تناقض الشعبوية اليمينية” بوضوح، فذلك التيار يناقض المنطق الديمقراطي الذي يفترض أن الشرائح الاجتماعية تنتخب ممثلين لها يدافعون عن مصالحها، وبدلاً من أن يصوت ناخبو “الشعبوية اليمينية” الذين ينتمي معظمهم إلى الشرائح الفقيرة للأحزاب ذات الأجندات الاجتماعية يؤيدون الحركات الشعبوية اليمينية، التي تتبنى مباديء الليبرالية الجديدة كخفض الإنفاق الحكومي وبرامج الرعاية الاجتماعية وخفض الضرائب على الشرائح الأعلى، وبالتالي تفاقم من أوضاع الناخبين الفقراء بجهلها السياسي، ويفسر المؤلف هذا التناقض من خلال الآليات الاجتماعية والنفسية التي تثير الأنماط السلوكية المعروفة تطوريًا وتؤثر على مشاعر الخوف والاستياء، والتي يصعب السيطرة عليها بدرجة كبيرة نظرًا لتعقيد مجتمعات اليوم، ومن الواضح – كما يقول المؤلف- أن “ذكاءنا الاجتماعي مرتبك أيضًا، فنحن جميعًا نفتقر في الوقت الحالي إلى الوسائل اللازمة لضمان عمل مجتمعنا، والشعبوية اليمينية هي أحد أعراض ونتاج هذا العجز، لكنها للأسف عرض من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم المشاكل بشكل جذري على المدى المتوسط”.

ورغم أن الكتاب يتناول ظاهرة سياسية حديثة في المجتمعات “الديموقراطية” الغربية إلا أننا لو مددنا خط أفكار ونظرية ميشائيل باون على استقامته لكي ننظر إلى عالمنا العربي في إطارها لأمكننا أن نخرج بالعديد من الملاحظات الأساسية حول طبيعة أنماط الحكم فيه وإمكانية تطورها، حيث يفترض باون أن الديموقراطية مرهونة بالأساس بانخفاض معدلات التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، وصلاحيتها مرهونة بفرضية أن الشرائح الاجتماعية تختار ممثلين لها في السلطة يعملون لحماية مصالحها وفقا لاعتبارات عقلانية، بل وربما يدلنا هذا القياس في ضوء تحليل باون على مدى العبث حينما نتصور أن إرساء “الديموقراطية” في عالمنا العربي ممكن بمجرد أن تتم عمليات انتخابية حرة للهيئات الحاكمة، وكذلك إذا تصورنا أن اختيار الشرائح الاجتماعية في عالمنا العربي للأحزاب والممثلين النيابيين الذين سيخدمون مصالح تلك الشرائح سيقوم على اعتبارات عقلانية صرفة وليس المشاعر والعواطف، فعالمنا العربي حافل بالناخبين العاطفيين، ناهيك عن دور الإعلام في تشويه وعيهم، وربما أن تجارب الانتخابات الحديثة في المنطقة العربية خير دليل على أن “لعبة الانتخابات” أو “صناديق الاقتراع” وحدها لا تنتج “ديموقراطية”، بل إنها تصبح أحيانا شكلا مضللا لتزييف إرادة المجتمعات.

لعبة القرار النهائي

هل البشر أنانيون في الحقيقة؟ كان هذا السؤال موضع خلاف لزمن طويل، وأرهق عقول الفلاسفة ومؤسسي الديانات وعلماء النفس على مدى قرون، ولم يتوصلوا إلى اتفاق حوله، لكن لعبةً بسيطة تخبرنا بما هو أكثر بكثير من تلك النقاشات التي لا تنتهي، هذه اللعبة تسمى لعبة القرار النهائي، ابتكرها فيرنر جوت وهو خبير اقتصادي من كولونيا في الثمانينيات، ومنذ ذلك الحين استنسخت اللعبة عدة مرات، تضم اللعبة اثنين من اللاعبين: يُعطى لأحدهما ولنسمه “مقدم العرض” مبلغًا معينًا، لنقل أنه باليورو، وعليه أن يتقاسمه مع اللاعب الثاني “المتلقي”، و”مقدم العرض” وحده من يقرر كيف يقتسم المبلغ مع اللاعب الثاني، الذي يمكنه أن يقبل أو يرفض طريقة تقسيم المبلغ، فإذا قبلها يأخذ كل منهما نصيبه؛ وإذا رفض يخرج الاثنان خاليا الوفاض، ثم تنتهي اللعبة، ولا تُجرى جولة ثانية.

لو كان البشر في الواقع أنانيين خالصين سيكون الأمر واضحًا، سيعرض “مقدم العرض” أقل قدر ممكن ليكون أفضل حالًا، وسيقبل المتلقي أي مبلغ، فالمبلغ الصغير أفضل من لا شيء على أي حال، والقرود التي أجريت عليها التجربة تصرفت هكذا بالفعل: احتفظ “مقدم العرض” لنفسه بأكبر قدر ممكن، وقَبِلَ المتلقي ما عُرض عليه – ولم يرفض الصفقة إلا إذا كان لن يحصل على شيء.

أما البشر فيتصرفون بشكل مختلف تمامًا، فيعطي “مقدم العرض” لرفيقه ما بين 40٪ و50٪ من المبلغ، ويطلب المتلقي 20٪ على الأقل، وإلاَّ يرفض العرض إذا كان أقل من ذلك، ومن الواضح أن البشر يتوجهون إلى مبادئ الإنصاف، ويتنازلون -كمقدمي عرض ومتلقين- عن المزايا الشخصية المحتملة: وهنا تبدو الأنانية الخالصة مختلفة، وعلى أي حال عادة ما يستفيد “مقدم العرض” حتى لو أعطى مبلغًا أقل، والمتلقي على استعداد للتنازل عن المكسب إذا كان العرض غير عادل، ومن الواضح أنه يريد تحفيز “مقدم العرض” الذي يخرج في هذه الحالة خالي الوفاض لكي يقدم عرضاً أفضل في المرة القادمة – حتى لو كان المتلقي نفسه لن يستفيد منه: اللعبة كما قلنا تنتهي بعد جولة واحدة، ولا يبدو أن القرود مهتمة بالعدالة – فالقرد المتلقي لا يرفض بشكل عام العروض غير العادلة، لكنه حتى لو رفضها فإن القرد “مقدم العرض” لا يتعلم، بل يظل على نفس الخط.

تقدم هذه التجربة أول مؤشر على ظاهرة ستلعب دورًا مركزيًا في ما يلي: البشر يختلفون عن القرود من حيث ذكائهم الاجتماعي المرتفع على وجه الخصوص، والذكاء الاجتماعي هو القدرة على تنظيم العلاقات داخل الجماعة بطريقة تجعل التعايش فعالاً وتقلل قدر الإمكان من النزاعات، والإنصاف شرطٌ أساسيٌ لذلك: فمن يخدع شريكه لا داعي لأن يندهش إذا وجد نفسه وحيدًا في المرة القادمة، لكن التجارة العادلة ليست بهذه السهولة: فعلى الإنسان أن يكون لديه تصور عما يحق للآخر؛ عليه أن يتحكم في نفسه حتى يترك فعلياً ما هو مستحق للآخر، وفي نهاية المطاف يجب أن يدقق فيما إذا كان الآخرون يلتزمون بالقواعد – وأن يتدخل عند اللزوم إذا لم يفعلوا ذلك، وبعبارة أخرى يتعين وجود قدر معين من الذكاء الاجتماعي إذا أردنا للعدالة أن تسود بالفعل داخل جماعة بشرية.

للاختلافات في الذكاء الاجتماعي عواقب وخيمة – يمكن ملاحظة ذلك في الاختلافات الكبيرة بين تجمعات القردة والمجتمعات البشرية القديمة، فعادة ما تكون تجمعات القردة منظمة بطريقة هرمية صارمة، يحتل رئيس القطيع مكان الصدارة ويتمتع بالأفضلية في الحصول على الطعام والجنس، ومن ناحية أخرى يظل التعاون بين أعضاء جماعة القرود ضمن حدود ضيقة، بينما كان البشر الصيادون وجامعو الثمار في العصر الحجري يتمتعون -كما نعرف- بدرجة من المساواة، وكانت سلطة قادة الجماعة -إن وجد- محدودة، وإذا تجاوزوا حدودهم عليهم أن يتوقعوا مقاومة من أعضاء الجماعة الآخرين، وهناك أيضًا درجة عالية من التعاون، ولم يكن وضع الجماعات البشرية في العصر الحجري يقتصر على الصيد معًا أو تبادل معارفهم؛ بل كانوا يتقاسمون أيضًا فرائسهم ويتشاركون في أدوات الصيد.

وهكذا اكتسب البشر مجموعة كاملة من المزايا المهمة: من يقتسم مع الآخرين فريسته القابلة للتلف يمكنه أن يتوقع الحصول على نصيب من فرائس أعضاء المجموعة الآخرين في المرة التالية، وكان لنزوة الصيد الموفق مزايا كبيرة، لكن المجتمعات التعاونية التي تتمتع بالمساواة كانت أكثر تعقيدًا بكثير من التسلسل الهرمي الصارم، فعندما يشارك الفرد غنائمه مع الآخرين تتم دائمًا مراقبة من يساهم في المجتمع ومن لا يساهم، وهذا الهدف بالتحديد يخدم التوجه نحو مبادئ الإنصاف، كما يوضحه سلوك الأشخاص في لعبة القرار النهائي، لكن يبدو أن بعض المشاعر السيئة مثل الحسد والحقد تلعب دورًا مهمًا في ذكائنا الاجتماعي – فهي تحفزنا كي لا تخرج الاختلافات والظلم في المجتمعات البشرية عن السيطرة، وقد حدث ذلك ببطء شديد في المراحل المبكرة من تاريخنا، لكن هذا التطور تسارع بعد ذلك أكثر فأكثر.

 

يفترض باون أن الديموقراطية مرهونة بالأساس بانخفاض معدلات التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، وصلاحيتها مرهونة بفرضية أن الشرائح الاجتماعية تختار ممثلين لها في السلطة يعملون لحماية مصالحها وفقا لاعتبارات عقلانية، بل وربما يدلنا هذا القياس في ضوء تحليل باون على مدى العبث حينما نتصور أن إرساء “الديموقراطية” في عالمنا العربي ممكن بمجرد أن تتم عمليات انتخابية حرة للهيئات الحاكمة،

هل البشر أنانيون؟

هل البشر أنانيون في الحقيقة؟ كان هذا السؤال موضع خلاف لزمن طويل، وأرهق عقول الفلاسفة ومؤسسي الديانات وعلماء النفس على مدى قرون، ولم يتوصلوا إلى اتفاق حوله، لكن لعبةً بسيطة تخبرنا بما هو أكثر بكثير من تلك النقاشات التي لا تنتهي، هذه اللعبة تسمى لعبة القرار النهائي

دور المشاعر السيئة

بعض المشاعر السيئة مثل الحسد والحقد تلعب دورًا مهمًا في ذكائنا الاجتماعي – فهي تحفزنا كي لا تخرج الاختلافات والظلم في المجتمعات البشرية عن السيطرة، وقد حدث ذلك ببطء شديد في المراحل المبكرة من تاريخنا، لكن هذا التطور تسارع بعد ذلك أكثر فأكثر.

هياكل السلطة

ما يجعل الفرضية المركزية لهذا العمل واضحة: أن هياكل السلطة لا تقوم بشكل أساسي على العنف بل على الذكاء الاجتماعي، وهي تعمل على تنسيق سلوك أعضاء الجماعة وتجنب النزاعات وتحقيق التعاون، ليس لأسباب أخلاقية أو أيديولوجية، وإنما ببساطة لأنها أفضل للجميع، فالبشر ليسوا في حاجة إلى علاقات اجتماعية مستقرة لكي يضرب بعضهم بعضا، ومتطلبات ذكاء الخصوم بسيطة إلى حد ما: كل المطلوب عضلات وقبضتان وربما هراوة قوية، لكن النزاعات العنيفة لها ثمنها: في أفضل الحالات يتم إهدار الوقت والجهد، وفي الحالات الأسوأ تحدث إصابات خطيرة، أو يخاطر المرء بحياته، ومثل هذه النزاعات تكون عائقًا أمام التعاون.

تحاول هياكل السلطة تنظيم التعايش الاجتماعي بحيث يتم تجنب تلك الصراعات، وتخلق في الوقت نفسه ظروفًا أفضل حتى تتمكن الجماعة من تحقيق هدفها الفعلي، أي تسهل التعاون بين أعضائها، وفي كلتا الحالتين – التعاون وتجنب النزاعات- يلعب الذكاء الاجتماعي الدور المركزي.

الذكاء الاجتماعي وأشكال التعاون وتنظيم الصراعات المحتملة تجعل من الممكن أيضًا أن يتعلم الناس من بعضهم البعض وأن يطوروا مجتمعهم وثقافتهم بالتالي، ونتيجة لذلك أصبحت المجتمعات البشرية أكثر تعقيدًا في الغالب، ولذلك يتعين توفر مستوى أعلى من الذكاء الاجتماعي حتى لا تزداد النزاعات ومشاكل التعاون.

يبدو أن نوعًا من سباق التسلح يمكن أن يبدأ هنا: الذكاء الاجتماعي يمكنه تحسين التعاون وبالتالي يدفع تطور المجتمع، فيصبح المجتمع أكبر وأكثر تعقيدًا، لكن هذا يتطلب المزيد من الذكاء الاجتماعي، وإذا لم يحدث هذا التصاعد في الذكاء الاجتماعي يمكن أن تتفاقم الصراعات مرة أخرى ويقل التعاون، وسنرى أننا نواجه هذه المشكلة اليوم.

الصراعات والتطورات الاقتصادية

لا توجد مجتمعات بشرية في فراغ، وإنما يتشكل تطورها من خلال مجموعة متنوعة من الظروف الخارجية، وهناك عاملان لهما أهمية خاصة في هذا السياق، الأول أن الصراعات الخارجية لها تأثير مهم على هياكل الجماعة البشرية، وتحت الضغوط الخارجية تتقارب الجماعة من بعضها البعض، وتدفن صراعاتها الداخلية وتدعم أعضاءها الأضعف: وقد لعبت الضغوط الخارجية على سبيل المثال دورًا مهمًا في نشأة الديموقراطية في اليونان، لكنها لعبت أيضًا دوراّ في تطوير أنظمة الرعاية الاجتماعية بعد الحروب الكبرى في القرن العشرين، وعندما تنتهي الصراعات يحدث العكس: يتباعد الأعضاء ويزداد عدد النزاعات الداخلية.

هنا يأتي دور العامل الثاني: التطور الاقتصادي، وخاصة تطور التفاوت الاقتصادي، كان الإنسان الصياد وجامع الثمار في العصر الحجري يملك ما يحتاجه للحياة – ولا يمكنه أن يأخذ معه ما هو أكثر من ذلك في ترحاله، ولهذا السبب أيضًا لم يكن هناك مكان للفروق الاقتصادية، لكن مع دخول الزراعة وتربية الماشية في النشاط الإنساني وبداية الاستقرار مع ثورة العصر الحجري الحديث منذ حوالي 12 ألف سنة تغير الوضع: أنتجت زراعة الحبوب فوائض يمكن تخزينها لفترة أطول حيث أن الإنسان لم يعد رحالاً أيضاً، وهكذا نشأ التفاوت الاقتصادي، وأمكن بسهولة ترجمة ذلك إلى عدم المساواة السياسية: من يمتلك أكثر يزيد نفوذه السياسي.

وبعد ثورة العصر الحجري الحديث تركزت القوة الاقتصادية والسياسية في طبقات معينة، ومن الآن فصاعدًا حدث ذلك بشكل منتظم: في أوقات الاستقرار لا يصبح الأغنياء أكثر ثراءً فحسب بل يكتسبون أيضًا المزيد من السلطة السياسية، ولأن هذا التركيز للثروة والسلطة يعيق الحياة الجماعية من نواح كثيرة جرت محاولات جديدة ومتكررة لمنع ظهور عدم المساواة.

المؤسسات الاجتماعية

لكن كيف ارتفع منسوب الذكاء الاجتماعي؟ نمو الذكاء الاجتماعي للفرد هو في المقام الأول نتاج للتطور، لكننا لا نكاد نثق في التطور، فهو يستغرق وقتًا طويلاً جدًا، ويعمل بطرق مشكوك فيها للغاية: من لا يتأقلم عليه أن يتوقع الموت، لكن الذكاء الاجتماعي يمكن أن يتطور بطريقة أخرى أيضًا، وتحديداً وفقاً لطريقة إتقاننا للمهارات العلمية أو الثقافية أو التقنية الأخرى: حيث نستفيد من خبرتنا، ومن نقل ما تعلمناه من جيل إلى جيل، وبالتالي نطور القواعد والمؤسسات التي تعتمد على مهاراتنا، وتسعى إلى تعويض نقاط ضعفنا.

في بداية هذا التطور هناك استراتيجيات تعزز تماسك أعضاء الجماعة البشرية فيما بينهم، وارتباطهم بها أيضًا، وتشمل هذه الاستراتيجيات على سبيل المثال الأساطير والطقوس الجماعية أو الأزياء أو زخارف الجسد التي تميز جماعة معينة، كما تساهم المعتقدات الدينية التي تنسبها الجماعة نفسها أو قادتها أو قوانينها إلى قوى عليا في تماسك الجماعة بشكل حاسم، ويمثل تطور المبادئ القانونية والمؤسسات الديموقراطية في اليونان القديمة وروما خطوة أخرى، وفي عصرنا الحاضر أضيف احتكار الدولة لاستخدام القوة وتقسيم السلطات.

الأطروحة المركزية

الأطروحة المركزية لهذا الكتاب باختصار –وبشكل مبسط إلى حد كبير- هي أن هياكل السلطة تعمل على تنسيق وتجنب الصراع وأنها تحقق ذلك من خلال وسائل الذكاء الاجتماعي في المقام الأول، وعلى عكس ما يدعيه كثير من المنظرين الكلاسيكيين مثل توماس هوبز أو ماكس فيبر لا تقوم السلطة على العنف، بل على العكس تمامًا: تقوم السلطة على المهارات النفسية، وبصياغة أدق على المهارات النفسية الاجتماعية، وهي لا تعمل في نهاية المطاف على قمع العنف، فهياكل السلطة تتأثر دائمًا بالعوامل الخارجية، وبينما تؤدي الصراعات الخارجية إلى تقارب أعضاء الجماعة البشرية من بعضهم البعض وإلى التعاون معًا بشكل أفضل إلا أن التقدم الاقتصادي غالبًا ما يؤدي إلى فوارق اجتماعية أكبر ويتسبب بالتالي في إجهاد التماسك الاجتماعي، بالإضافة إلى ذلك تعمل التطورات الاقتصادية على أن تصبح الجماعات البشرية أكبر وأكثر تعقيدًا، وتفرض متطلبات أكبر على التنسيق وتُعرض الذكاء الاجتماعي لتحديات هائلة، ومع ذلك يمكن أن تواجه المجتمعات البشرية هذه المتطلبات من خلال تطوير المؤسسات والقواعد التي تسهل التعايش، وتشمل هذه المؤسسات -على سبيل المثال- الأديان والأنظمة القانونية وكذلك الديموقراطية، ويمكنها أن تتيح مساحة جديدة للمناورة لتطوير ثقافة المجتمع وإلى توسيع تلك المساحة أمام شرائح واسعة من السكان، وإذا لم يفِ مجتمع ما بهذه المتطلبات يمكن أن تندلع صراعات قد تؤدي في الحالات القصوى إلى انهيار المجتمع.

إذا كان هذا التحليل صحيحًا في سماته الأساسية فإنه لا يوفر مفتاحًا لفهم هياكل السلطة وتطوراتها فحسب، فما دامت السلطة ظاهرة اجتماعية نفسية فإن فهماً أفضل للآليات النفسية الأساسية سيخلق أيضًا فرصًا للتعرف على التطورات غير المرغوب فيها، وتصحيحها إذا لزم الأمر.

ينطبق هذا بشكل خاص على الحركات الشعبوية اليمينية التي تصاعدت عمليا في جميع الدول الغربية في السنوات الأخيرة، وسأحاول أن أوضح أن العوامل النفسية-الاجتماعية تلعب هنا أيضًا دورًا مركزيًا: يمكن فهم المخاوف والسخط الذي يُحفز هذه الحركات كعَرَضٍ للتحديات المفرطة والضغوط المرهقة.

نمو الذكاء الاجتماعي للفرد هو في المقام الأول نتاج للتطور، لكننا لا نكاد نثق في التطور، فهو يستغرق وقتًا طويلاً جدًا، ويعمل بطرق مشكوك فيها للغاية: من لا يتأقلم عليه أن يتوقع الموت، لكن الذكاء الاجتماعي يمكن أن يتطور بطريقة أخرى أيضًا، وتحديداً وفقاً لطريقة إتقاننا للمهارات العلمية أو الثقافية أو التقنية الأخرى

عدم مساواة

بعد ثورة العصر الحجري الحديث تركزت القوة الاقتصادية والسياسية في طبقات معينة، ومن الآن فصاعدًا حدث ذلك بشكل منتظم: في أوقات الاستقرار لا يصبح الأغنياء أكثر ثراءً فحسب بل يكتسبون أيضًا المزيد من السلطة السياسية،

هياكل السلطة

هياكل السلطة تتأثر دائمًا بالعوامل الخارجية، وبينما تؤدي الصراعات الخارجية إلى تقارب أعضاء الجماعة البشرية من بعضهم البعض وإلى التعاون معًا بشكل أفضل, إلا أن التقدم الاقتصادي غالبًا ما يؤدي إلى فوارق اجتماعية أكبر